قد أصبح هواءهم


يُطلق عبد السلام لحيته..يطيل شعره..يرتدي سرواله ومن فوقه جلباب قصير..يترك المنزل كل ليلة قبيل الفجر ويمشي مسرعاً متجهاً الى المسجد المُطل على الميدان القديم..فيؤذن للصلاة..ويجتمع بالمتناقصين من المواظبين على جماعة الفجر..ثم يتناول طعام الإفطار مع دائرة معارفه الصغيره فيلتفون حول عربة الفول الملونة الخشبية ويتناولون بشهية كبيرة فول وبصل وكثير من الخبز..ثم يعودون للميدان حيث المقهى فيتناولون أكواب الشاي الأسود ويتسامرون بالحديث عن أمور الشارع والمارّة حتى يعود كل منهم إلى بيته لينام حتى الظهيرة..
بلا عمل هو..ولا انجاز يذكر.. ولكنه يعيش تفوق ديني، فهو يشد الإزار ساعة الصلاة، ويستاك ويتعطر ويصدق الناس القول بكل ما يحفظه ويحبه من قصص القرآن. عندما يستيقظ ظهراً يجري الى الماء ليتطهر من جنابة ألمت به بنوم..فهو دائماً ما يرى أمينة في حُلُمه..وهو يحب أمينة..ولا يجروء على التحدث معها، فهي ابنة حسب ومال وجميلة النظرة وخفيفة القوام..تمر أمامه كل خميس بسيارتها الفارهة حين يشتري لها السائق مجلة ما من بائع الصحف الكائن بجانب المقهى. وفد سأل عنها وعرف أنها من قاطني وسط البلد حيث بيت أباها سليل البشوات. ينتظرها كل يوم..يحبها كل يوم..وأثناء الانتظار يشبع شره عينيه بما ظهر أو فُسِّر من اجساد النساء..وفي أثناء الانتظار قد يمسك ذراع جارته زوجة الحدّاد او يقبل الفتاة الخرساء التي تبيع العطارة. ولا يفعل أكثر من ذلك..فهو شيخ.


أمينه تعقص شعرها بلا ترتيب...تنسى ان لشعرها وجود حيث هو دائم الاختفاء بين دوائر مجدولة تتخذ من قمة رأسها بيتا..أمينة ذات بنطال يتسع للكثير من الحركة والصعود والهبوط..وهي ترسم قرص الشمس كل يوم حتى صارت حوائط غرفتها مغطاة بأقراص شمسية من كل لون..قانيٍ كان أو باهت الاصفرار..وهي تصاحب الرسامين والشعراء والممثلين والكُتاب..وهي تجد في التفرد نفسها..فلا ترتدي مثل بقية الفتيات ولا تتصرف مثل بقية المصريات..تتغذى على الدخان والقهوة..وتفكر كثيراً في الحب والترحال..تتمنى أن تنتهي حياتها في معزل عن أي حياة..في غابة افريقية ما..او بجانب نهر اغريقي دائم الجريان..تنزل مع أبيها سليل الحسب القديم، حمدي باشا، كل باكر فتتركه عند بوابة النادي الاجتماعي الشهير الذي يقضي به معظم أوقاته، وتذهب هي الى مجمع الفنون حيث أصدقائها من المتفردين أمثالها..فتعشق كل لحظة تقضيها معهم في عالمهم الخاص الذي لا يسمح لأي اعتياد أو انماط مكررة أن تعلن وجودها في رحابه.


حمدي باشا يرتدي حذاء صمم خصيصاً لراحة قدميه بأنامل صانع أحذية رؤساء مصر القدامى..ويدخن بشراهة جعلت صوته الأجش أكثر غلظة..طويل القامة وشديد البنية رشيقاً إلا من تدليٍ صغير ببطنه. ينظر الى الناس نظرات لا تعبير فيها من وراء نظارة طبية زجاجها غامق. يمتلك مصنعاً يديره أخاه..ويقضي نهاره والجزء الأكبر من ليله مع أصدقاء العمر في النادي الاجتماعي حيث روتين يومي دقيق من دورات "البريدج". ينام فقط حتى يأتي يوم ثاني من مباريات وضحكات وتفاصيل صغيرة أصبحت تمثل تفاصيل حياته. لم يعد يفكر بالنساء كما اعتاد..ولا بالمال كما يوماً احب..هو يفكر بالموت كثيراً ويراه كنادل أسود المخيف ينتظره بالباب القريب ليأخذه بعيداً عن كل ما يعرف ويحب..ويفكر بلعبته..فأرضه الخضراء هي منضدة الجوخ الأخضر حيث ترتص الورقات وحيث ترتاح يده أثناء اللعب..وبيته أصبح كائناً بقاعة اللعب بالنادي حيث رائحة دخان السيجار تمتزج برائحة غلّايات الشاي والقهوة مع روائح الشطائر التي تملأ بطون أصدقائه اللاعبين بأماكنهم حيث لا يبرحون كراسيهم إلا تلبية لحاجة او لتبادل الأدوار الدائري بين المناضد الخضراء بغرفة اللعب.



يخسر حمدي باشا اموال طائلة على طاولة البريدج..يخسر ويكسب متى أراد..فقد تعلم منذ زمن أن الرابح دائماً لا يحبه الأصحاب ولا يقبلون على مشاركته اللعب..فاحترف الخسارة..كما احترف المكسب..فقط لأنه يحب اللعب..فقط ليحتفظ بأقران الطاولة الخضراء. لا يخلع عن قدميه الحذاء الثمين ليريح قدميه من عناء الجلوس لعشر ساعات من اللعب كما يفعل أصدقاءه، فهيبته ووقاره أهم عنده من الراحة. لا يصلي..فقد فات وقت اللجوء الى الله..هو يتذكره كلما لمحت عينيه النادل الأسود البغيض الذي ينتظر أمر سيده ليقبض روحه..يتذكره كلما تذكر ما اقترفه من زنا..ومن بطش بالضعاف..لا يفكر بلعبه واموال الخسارة كذنوب..استصغرهم منذ زمن فلا يقارنوا بما اقترفه سالفاً. وهو ينسى آلام فراغه الداخلي القاتل كلما ضحك مع أصحابه رابحاً او خاسر. وتدور به الغرفة انتشاء كلما تضاعفت متعته مع الورقات..فالورق هو سيد الغرفة ومالك رقاب اللاعبين، وقد أصبح دخان السيجار هواءه. 



تمتلء رئتا أمينة كلما زاد دخان الحشيش الذي يضيئ أصابع العازفين للطبول والأوتار في ليل غاب عنه القمر. تمتلء رئتيها وتنهل أكثر من رائحة الحشيش المحببة إليها..تأخذ نفساً من حبيبها وتغلق عينيها وكأنها ترى الدخان يسري بدمها وجوفها..وتميل مع الموسيقى البدائية التي يعزفها أصدقاء الحبيب من الأجانب والمصريين. يفترشون أرض الحديقة ويجلسون في دائرة حول نار تلتهم الحطب بثوانٍ وكأنه ورق..يجلسون وكل منهم ينتظر انتشاء ما، بعد أن سئم ما ألفه من انتشاء..يريدون المزيد..جميعاً..يريدون ما هو أكثر من جنس عادي او تأثير حشيش أو أنغام موسيقى تحرك فيهم المشاعر..لم يعد الجنس يكفي، ولا الدخان الأزرق ولا الموسيقى..يريدون شيئاً أقوى..تأثيراً أكبر..وينشدون غايتهم غير المعروفة من خلال اجتماعهم بدائرة المعية تلك..وأمينة معهم..ليست مثلهم تماماً لكنها معهم..وهذا يكفي..ولأنها معهم..تريد أن تغيب عن دنياها معهم..وقد تترك جسدها لأحدهم..أو بعضهم..حتى تنغمس معهم أكثر..حتى تشعر بما هو أكثر..فقلبها يأكلها برغبة بشئ لا تدركه..وروحها تترك جوفها باردة متألمة برغبة امتلاء غير مفهومة ولا مبررة..ولن تعرفها..فقد أصبح دخان الحشيش هواءها.



وينظر عبد السلام من خلال الأشجار على دائرة أمينة وأصدقائها..يغار منهم لأنهم مثلها..يرتدون ثياباً غريبة ويتحدثون بلسان غريب ويفهمون الأغنية الأجنبية التي تغنيها السيدة الشقراء. يفكر لو يدخل فينضم اليهم..فقد رأى آخرين يجلسون بلا كلام ولا سؤال..ويفكر في جلبابه الأبيض..ويشعر بالعار من ثوبه الذي يدل على تدين..في لحظات يزهد كونه "شيخ"..يفكر لو ينزع عنه الثوب ويجلس على الأرض..يتسائل لو الأرض طاهرة..ويجيب بنعم..أرض الحديقة حتماً طاهرة..وينزع الجلباب ليبقى ببنطال رياضي وقميص. يفكر أنه الآن يشبه أحدهم، ذلك الفتى ذو الشعر الطويل المجدول يلبس أيضاً بنطال رياضي بالٍ وقميص به قطع. يدخل الحديقة دون أن ينظر لها ويجلس في الدائرة..ينظر اليها..يرى انعكاس النار التي تتوسط الحلقة وقد أنارت عينيها..ويكتشف انه لم يرها بهذه التفاصيل قط..لم ير عينيها قط..ويرى فيهما عبوس..وتوهان..وشبق..ويحاول أن يبعد نظره..لكن عيناه تشدانه اليها..ويرى يد حبيبها التي تتجول بين ظهرها وبطنها..ويصرخ بداخله "ايه ده..حرام..فسق..فجور!!" ثم يلمح كلباً أسود صغير..يدور حول الدائرة..يقترب من الجالسين أمامه ويجلس بينهم..فيربتون عليه ويتركون لعابه على ايديهم ووجناتهم..فيصرخ بداخله "ايه ده..حرام..نجاسة!!" فيضع يديه بجيب الجلباب المطوي بجانبه ويخرج عوداً من البخور ويقترب من النار ليشعله..ويجلس فخوراً ومستأنساً بعبق البخور الذي حتماً سيطرد الشياطين المصاحبين للكلب. ثم يرى أمينة وهي تقبل حبيبها..وقد انخلع قلبه من صدره..وشعر بغصة خنقته..ثم شعر بيد الفتاة الشقراء التي تجلس بجانبه وهي تحيط كتفيه بذراعها وتحيه بابتسامه تعقبها قبلة. فنسى أمينة..ونسى الكلب..وتناسى الحشيش..وتاه للحظات..وفتح فمه ليبتلع شفاه الفتاة تقبيلاً..بلا احساس..بلا تفكير..وبلا تأنيب..فقد أصبح البخور هواءه. 















تعليقات

المشاركات الشائعة