حارٌ هندى

إنه رجل لم يعرف من الدنيا الا بعض المسامير والأسلاك ، حيث عمل فنى مبردات منذ ترك الثانوية الحرفية قبل حصوله على الشهادة بشهر واحد.
إنه رجل لم تعرف يداه ابداً نعومه ولا قدماه معناً للراحة...لم يعرف إلا أسرته الصغيرة المكونة من أم وأختان وأخ.. ومُعداته...بل أكاد أجزم أنه لم يعرف معنىً حقيقياً للسعادة إلا يوم دفع مدخرات عامين كاملين ليبشر والدته برحلة العُمرة التى طالما حلمت بها ويوم إشترى حقيبة المعدات الكاملة المستورده...والأخير كان يوماً لا ينسى...الأخير كان يوما شعر فيه وهو يمشى بزهو حاملاً الحقيبة أنه أهم "باشمهندس" فى مصر...ولقد أراد دائماً أن يكن هاماً...ذو شأن...شخصاً تتناوله أحاديث الناس ويتخذه اللآخرون مثالاً وقدوة...لكنه لم يستطع.
إنه رجلاً يظل يعمل ويعمل حتى يستوقفه الناس معلنين عن إحتياجهم للراحة...وهو يعمل ويعمل حتى لا يجد ما لا يعمله.
إنه رجل لم يعرف أبداً أحلام اليقظة...بل نادراً ما تأتيه أحلاماً بنومه...وهى دائماً ما تتعلق بأبيه رحمة الله عليه يبتسم له أو يأخذ بيده...وقليلاً ما تكون الأحلام ناعمة...حنونة...لونها زهرى...رائحتها وردية...همسها عذب...قليلاً ما تكون أحلامه عن إمرأة كالحلم...تداعب شعره ويريح رأسه على فخذها...إمرأة يرى بعينيها إبتسامة دائمة وقبلة شهية ودفء محبب يلوذ فيه بالفرار.
هذا الرجل شده زميله شداً حتى يترك العمل بخطوط تكييف الهواء المركزى الخاص بالمستشفى الجديد ، ليشاركه الطعام...فقد قرصه الجوع حيث تعدت الساعة السادسة مساءً وهو بدون طعام.

- طب انت عايزنى ليه اصلاً؟ ما تبعت الواد محمود يجيبلنا لقمة من اى حد قريب وخلينا نكمل شغل.
- يا عم بشبشها كده الله يكرمك...عايزين ناكل لقمة جامدة بمناسبة الشغلانة الحلوة دى...قوم بينا نروح مطعم بقى متبقاش خنيق
- مطعم ايه يعنى؟ انا معرفش مطاعم هنا...يا عم دى حتة عِلِيوى
- تعالى بس... انا شفت مطعم جامد وانا طالع وقريب يعنى مش حنروح بعيد...حناكل ونرجع نكمل شغل
- مطعم جامد ده حيبقى بكام يعنى
- يا سيدى ما احنا لسه عاكمين مبلغ كنا بنشتغل به سنة قبل كده...بر نفسك يا صاحبى...اقولك؟ عليا الغدوة دى
- يا عم لا عليك ولا عليا...يلا بينا

كان صديقه كالاطفال...يكاد يقفز مع كل خطوة من السعادة...وكان هو بلا تعبير...لا سعيد ولا يظهر عليه الضيق وهو يحاول اللحاق بخطا صاحبه وهو يعبر الشارع...
توجها الى بناية مقابلة للمستشفى على الجانب الآخر من الطريق...وهَما بالدخول عبر بوابة خشبية يبدو عليها القِدم ..كانت سميكة جداً وثقيلة جداً ..تُحليها مقابض وأشكال نحاسية كثيرة...كادا أن يعبراها لداخل المطعم إلا أنه توقف لحظة...ناظراً لأعلى...ثم لصديقه...وكانه يستجديه بآخر لحظة أن يتركه يرحل...لكنه إمتثل لجذبة صديقه له للدخول.

كان المكان كبيراً...مقسم الى أربعة زواياً...بكل زاوية مجموعة مناضد وكراسى محلاة بأقمشة مطرزة بلون خاص بها...تفصل كل زاوية ستائر سميكة مخملية مطرزة...
إنبعثت رائحة بخور غريب...غير التى تحرقه أمه كل يوم جمعة...رائحته إستفزته...ودخانه الكثيف غلف الأجواء بسحابة رمادية فبات المكان كأنه فيلم سينمائى من الأفلام التى يراها بالأعياد حين يضطره العُرف الى عدم العمل.
مشى هو وصديقه مشدوهان ومأخوذان بالمكان...لم يختارا زاوية للجلوس بل جلسا فى أقرب منضدة...وكانت منضدة دائرية عليها مفرشاً أرجوانياً يحاكى لون الستائر وفرش الكراسى...
نظرا حولهما باحثين عن أحد يطلبا منه الطعام...أشار صديقه الى رجل يرتدى عباءة قصيرة وسروال وعلى رأسه عمامة صفراء...وأتى الرجل وحياهما بإنحناءة بسيطة وسلمهما قائمتان للطعام ثم رحل بعيداً فى خطىً بطيئة وكأنه يخاف أن يكسر نغم المكان ونظم حركات الأبخرة العطرية...
كان كلامهما مقتضباً وهامساً...وضحك صديقه...

- هو احنا بنتوشوش ليه هى هى هى هى
- مش عارف...بس المكان ده غريب اوى...انا مقلق منه
- ايه يا عمنا ده مطعم...يعنى مم وهم وبس
- بس فخم اوى..يا ابن المجنونة...ده احنا حنكع مبلغ وقدره...بقولك ايه...ما تيجى نمشى
- وحد الله واختار حاجة تاكلها يلا وحياة رحمة ابوك ما تنكد علينا ع المسا
- ماشى ماشى انت حتقفش...نختار...
- انا حاخد الطبق ده...شكله جامد...لحمة ضانى ورز وحركات...وكمان مكتوب انه حار بالبهارات الهندية
- هندية هاهاها...ماشى...طب آخذ زيك عشان معكش انا واختار حاجة تطلع عكننة
- لا يا ذكاوة...اختار حاجة تانية تنويع...عشان لوطلعت مضروبة متبقاش باظت من كله

وعلا صوتهما...وضحكا...وجائهما الرجل ذو العمامة الصفراء..ودَون طلباتهما ورحل متأنياً كما جاء.
كان المكان شبه فارغ وكانت المناضد فارغة اللهم الا من مجموعة من الشقراوات ومعهم فتىً إفريقى جلسوا بالزاوية الزرقاء...يتناولون طعامهم بهدوء مستمعين لصوت القيثارة الهندية التى تملأ بصداها المكان...
ودمر صوت أغنية "أركب الحنطور واتحنطر" التى جعلها صديقه رنة هاتفه رونق المكان...فسارع الصديق الى الرد وترجل خارج المطعم حتى لا يحطم صوت شجاره مع زوجته جمال المكان.
وبقى وحده...يشاهد ما حوله...ودار بنظره معجباً بالمكان...وفكر بعمله وشعر بالإمتنان أن الله قد رزقه كثيراً فى الآونة الأخيرة...وابتسم حين أيقن أن بجيبه الكثير الذى يمكنه أن يتناول طعامه فى محال لا يرتاده الا عِلية القوم...والمهمين منهم...بل تعجب أنه هناك مطعم هندى بمصر...ونظر حوله ثانية لتستوقفه لوحة كبيرة معلقة على حائط بخلفه...
كانت ذهبية...ظن أنها مرعبة...كانت صورة فتاة بعشرة أذرع...كل ذراع نوع من الأسلحة...ما بين خنجر وسكين وسيف وغيرهما...ترتدى تاجاً كبيراً مرصعاً وكل ما فيها ذهبى...يظهر من تحت ثوبها أسد حول عنقه قيد ذهبى مرصع...ويقضم فخذ فارسٍ قد طعنته الفتاة برمح فى قلبه...وقد هوى الفارس وهوى حصانه من تحته.

- أعوذ بالله...يا ساتر يا رب...ايه المكان العجيب ده...وده أكلهم حلال بقى ولا ايه الهنود دول...

سمعه ذا العمامة الصفراء فقال:

- حلال يا فندم...البضاعة مصرية
- الله يطمنك
- عجبتك اللوحة؟
- أعوذ بالله...عجبتنى ايه...دى سفاحة ولا أخطبوط ولا أم أربعة وأربعين دى؟؟
- دى من آلهة الهند إسمها دورجا
- يعنى قصدك ملكة يعنى؟
- لأ إله
- أستغفر الله العظيم...ايه الكفر ده...

ابتسم الرجل ومشى الهوينا مبتعداً عنه...أما هو...فقد شعر بنعاسٍ مفاجىء...حاول ان يرى صديقه الا أنه لم يكن ظاهراً...اراح رأسه على يده وظل يحسب تكلفة جهاز اخته المرتقب...فقد طالبته أمه بالكثير...وهو يملك الكثير الآن...لكنه سيحاول ادخار بعض المال حتى يتمكن من ان يهدى امه رحلة الحج التى تحلم بها...
وربتت يدٍ على ظهره...إستدار ليجد فتاة وضعت يدها على كتفه...لم يقو على النهوض...نظر اليها متعجباً...صامتاً...مأخوذاً بإبتسامتها الهادئة...ونظرتها الحنونة...جلست على كرسى بجانبه...ووضعت يدها على يده...أخذه كل شىء...يدها ، الابتسامة التى تكاد ان تفقده وعيه...رائحة البخور الذى قوى دخانه...ثوبها الحريرى الشفاف...عيناها شديدتا السواد...كان يرغب ان ينطق...ليقول لها من انت...او يطلب منها الزواج فوراً وبغير تمهل...لكنه لم يفتح فيه...خاف ان تتبخر هى...خاله حلم لم يود الافاقة منه.
أشارت الفتاة لذو العمامة الصفراء فجاء بخطىً سريعة وإبتسامة واسعة...مال عليها لتهمس فى أذنه بشىء...ورحل مسرعاً...وعاد بلمح البصر وورائه فتاً قصير القامة ضحل الصدر يحمل صينية كبيرة...رصا ما عليها أمام الفتاة ورحلا.
لم تفارقها الابتسامة ولم تفارق عيناه بنظرها...وكأنها تحدثه بلغة صامته حروفها نظرات...سحبت يدها ببطء من على يده...تناولت قطعة لحم بأصابعها ولقمته اياها...مضغ مشدوهاً...لسعه الحارُ الهندى...غمرته لذة الطعم ولهيب المذاق...تناولت ارزاً بيديها واطعمته اياه بيد واليد الأخرى استراح طرف كفها تحت ذقنه حيث التقطت ما سقط من حبات الأرز الكهرمانية...ظلت تطعمه أشكال وأصناف من حارٍ أحمر...وحارٍ أصفر...ظلت تطعمه خبزاً كانه السحاب...ظلت تلقمه ابتسامات وبهار ونظرات حتى امتلىء...فامسكت ابريقاً به حليب جوز الهند وسقته...فشعر بأنه فى الجنه...بل كان شبه متأكد أنه قد مات وكافأه ربه على بره بأمه فأرسل له أجمل الحور العين لتطعمه وتسقيه من نهر الجنه...
إبتسمت الفتاة أكثر وكأنها قرأت أفكاره...ثم بللت قطعة كتان فى طبق ماء تطفو على وجهه وريقات ورد...ثم مسحت بها فمه برقه.
إبتسم وهم أن يقول شيئاً إلا أنها لمست شفتيه بإصبعها حتى لا يقول شيئاً...وإلتقطت من جانبها وسادة صغيرة مخملية أراحتها على ساقيها..وأسندت رأسه عليها ثم ربتت على كتفه وكأنه أم تساعد طفلها على النوم.
حاول أن ينفض الذهول والراحة والسعادة اللذى يشعر بهم ...وأن يتكلم ويسأل ويتحرك...إلا أنه لم يستطع...لم يستطع إلا أن يمتثل لهدهدة الأميرة الصغيرة...وبات النوم الى جفنه أقرب من وريده...
ونام...على ايقاع ربتتها الحنونة...ولم تتوقف هى عن التربيت...ولم تغير الايقاع..
فربتت
وربتت
وربتت
وخبط على كتفه الصديق

- يا عم فووق ابوس ايدك عايزين ناكل...

حاول أن يفيق...يتذكر ويتحقق ...نظر حوله باحثاً عن الفتاة...حاول ان يفهم كلام صديقه الذى لم يتوقف عن الكلام بالرغم من التهامه طعاماً كثيراً...لم يستطع فهم شىء...بل ظل يشعر انه تائه...مذهول...مزلزل.
حاسب صديقه على الطعام متأففاً...وقبل آخر خطوة تفصله عن الباب سمع صوتاً عالياً انتفض على أثره...

زئير أسد...

تعليقات

‏قال Unknown
حلوة قوي قوي التفاصيل، بجد كإني كنت شايفها!

بس مفهمتش الزئير بصراحة، هو كان في جنينة حيوانات ولا هو مكانش إنسان أصلاً ولا إيه؟
‏قال هيّ
عزيزى جوهرى..مش نركز كده واحنا بنقرا :) :)
الف شكر ورمضان كريم :)
‏قال غير معرف…
مصر فى مهب الريح

فى خلال الثلاثين عاما الماضية تعرضت مصر الى حملة منظمة لنشر ثقافة الهزيمة بين المصريين, فظهرت أمراض اجتماعية خطيرة عانى ومازال يعانى منها خمسة وتسعون بالمئة من هذا الشعب الكادح . فلقد تحولت مصر تدريجيا الى مجتمع الخمسة بالمئه وعدنا بخطى ثابته الى عصر ماقبل الثورة .. بل أسوء بكثير من مرحلة الاقطاع.

1- الانفجار السكانى .. وكيف أنها خدعة فيقولون أننا نتكاثر ولايوجد حل وأنها مشكلة مستعصية عن الحل.
2- مشكلة الدخل القومى .. وكيف يسرقونه ويدعون أن هناك عجزا ولاأمل من خروجنا من مشكلة الديون .
3- مشكلة تعمير مصر والتى يعيش سكانها على 4% من مساحتها.
4 – العدالة الاجتماعية .. وأطفال الشوارع والذين يملكون كل شىء .
5 – ضرورة الاتحاد مع السودان لتوفير الغذاء وحماية الأمن القومى المصرى.
6 – رئيس مصر القادم .. شروطه ومواصفاته حتى ترجع مصر الى عهدها السابق كدولة لها وزن اقليمى عربيا وافريقيا.

لمزيد من التفاصيل أذهب إلى مقالات ثقافة الهزيمة بالرابط التالى
www.ouregypt.us
‏قال هشام
اجمل ما فيها انك تجبرين العقل والقلب على اكمال القراءه فلم اتوقف الا عندما سمعت زئير الاسد الذى لم اتوقع سماعة ولست ادرى من جاء به الى هذا المكان وما فائدة وجودة القصة
وانصحك بتجربة الطعام الهندى فقد جربته اكثر من مره فى السعوديه وفى جدة بالتحديد حيث اعمل هناك وفى مطعم الزهره بشارع الاربعين
امتعتينى شكرا
‏قال هيّ
مصر فيها مطاعم هندى كتير على فكرة :)
شكراً للقراءة والتعليق :)

المشاركات الشائعة